يحتل الكبد منزلة متميزة في التاريخ ،لا في تاريخ الطب خاصة بل في تاريخ البشرية عامة ، فأولادنا "فلزات أكبادنا" ، أي أبناؤنا أعز ما لدينا وفلان "تضرب إليه أكباد الإبل" أي يرحل إليه في طلب العلم وغيره ، وفي اللغة كبد كل شئ : وسطه ومعظمه ، كقولنا "أصاب كبد الحقيقة" ، "والشمس في كبد السماء" أما" كبد الأرض " فهي ما في معادنها من الذهب والفضة ونحوهما ، وإذا تألم الإنسان من عطش أو حزن صاح "وكبداه!" أو "واحر كبداه !" أو "آه يا كبدي!".
وفي الأساطير اليونانية : أن "بروميتيوس" سرق النار من آلهة جبل الأولمب ، وأعطاها للبشر فتعلموا منها الفنون ، وكان عقابه أن قيد بالسلاسل إلى جبال القوقاز ، وتولى نسر جارح نهش كبد بروميثيوس يومياً كلما نبت من جديد ، أما "هند بنت عتبة" ، زوجة أبي سفيان وأم معاوية ، فقد حضرت غزوة "بدر" ثم غزوة "أحد" وهي مشركة قبل أن تسلم ، فلما قتل "حمزة" عم النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، طلبت إلى قاتله أن يأتيها بقطعة من كبد حمزة ، مضغتها ثم لفظتها ، وسميت هند بعدها "آكلة الأكباد".
لا غرابة إذن أن لجأ البابليون والآشوريون ، صناع حضارة ما بين نهري دجلة والفرات القديمة ، إلى ما عرف بـ"تفحص الكبد" ، وهو نوع من العرافة واستطلاع المستقبل ، فكان الكهنة إذا سألهم أحد المشورة ، مريضاً كان أو قائد في طريقه إلى الحرب ، يذبحون ثوراً أو خروفاً يفحصون كبده ، ويشيرون على السائل بما يجب أن يفعله أو ما سيكون مصيره ومآله .
وانتشرت هذه العرافة في اليونان أيضاً إلا أن ظهور أبقراط ، طبيبهم العظيم ومدرسته ، بدأ تحولاً من السحر والكهانة إلى الطب العلمي المنظم ، يعتمد على المشاهدة الدقيقة والتجربة الفاحصة ، ثم جاء جالينوس ، طبيب الرومان الكبير ، فشرح الحيوانات واكتسب منها معرفة واسعة بتشريح الإنسان ، وإن كان قد جانبه الصواب في كثير منه ، لأن تشريح الجثث الآدمية كان محرماً ، كان جالينوس يؤمن بنظرية " الأخلاط الأربعة " وهي أن الغذاء يتحول في الجسم إلى مواد أربع : الدم والبلغم والمرة الصفراء ، والمرة السوداء. وأن الكبد مسئول عن تكوين الأخلاط كلها وتوزيعها ، فالغذاء يمتص من المعدة والأمعاء ، ويتجه إلى باب الكبد حيث يطبخ هناك دماً ، "والكبد لحم أحمر كأنه دم جامد" ، ثم يوجه الكبد الماء إلى الكليتين ، والصفراء إلى المرارة ، والراسب الأسود إلى الطحال .
سيطر طب جالينوس ، ووصفه للتشريح ، ونظريته في تقالكبد:بد لأربعة ، على الفكر الطبي طوال العصر الوسيط ، واستمر مؤثراً لأكثر من ألف عام ، كان الأطباء العرب يتبعون "الفاضل" جالينوس في أكثر آرائه ، وإن كانت لهم شكوكهم فيه واعتراضاتهم عليه ، وبخاصة أبو بكر الرازي وبعد اللطيف البغدادي وابن رشد وابن النفيس ، في كتبهم عشرات من المشاهدات الدقيقة والملاحظات المبتكرة التي تشهد بأصالتهم وسبقهم.
ثم جاء عصر النهضة ، عصر العلماء والفنانين الموسوعيين ، أشهرهم وأعظمهم بلا جدال "ليوناردو دافنشي" كان ليوناردو متعدد المواهب والاهتمامات : خلد للعالم صورة "موناليزا" أو "الجيوكوندا" الشهيرة ، وعشرات أخرى من الروائع في الرسم والنحت والعمارة ، وكان أيضاً مهندساً ومولعاً بالعلم واستشراق المستقبل ، وقد شرح الجسم البشري ، ووصف الكبد ، رسماً وكتابة ، وصفاً تفصيلياً يشمل أوعيته الدموية وجهازه المراري وبعض أمراضه كتليف الكبد ، وظلت أبحاث ليوناردو واكتشافه مجهولة لأكثر من ثلاثمائة سنة ، وعزي إلى " فيزاليوس" ، وهو مواطن إيطالي آخر من عباقرة عصر النهضة ،عزي إليه الفضل في الوصف الحديث لتشريح الكبد .
وفي القرن السابع اكتشف "وليم هارفي" الدورة الدموية ، ففقد الكبد عرشه كمصدر للدم وتوزيعه ، واختزل الكبد إلى مجرد مفرز للصفراء.
ثم اخترع الميكروسكوب ، ففتح آفاقاً جديدة ، واكتشف العلماء عالماً واسعاً من التفاصيل الدقيقة المجهرية التي يجهلونها ، وواكب ذلك فهم أصدق وأعمق عن بناء الكبد ووظائفه .
ففي القرن الثامن عشر وصف الإيطالي "مرجاني" والسويسري "هالر" التشريح الدقيق للكبد : فصوصه وخلاياه ، وأوعيته الدموية وأمراضه ، وعلاقة تليف الكبد بالخمر (الكحول) وأكياس الكبد بالديدان الطفيلية .
وفي القرن التاسع عشر جاء المزيد من التفاصيل ، واستعادالكبد عرشه ، وصف"كلودبرنار " دور الكبد المحوري في تنظيم سكر الدم ، واكتشف مادة الجليكوجين الذي هو بمثابة النشا الحيواني لأنه المخزن الرئيسي للسكريات في الكبد ، ووصف "لينك" تليف الكبد وضموره وصفاً كلاسيكياً حتى أطلق اسمه عليه ، كذلك أطلق اسم "هانو" عالم فرنسي ثالث ، على تليف الكبد المراري الأولى ، وتنبه الأطباء إلى تكرر ظهور أوبئة مصحوبة باليرقان ، وأثاروا احتمال وجود ميكروبات دقيقة تسبب هذه الأوبئة ، إلا أن "رودلف فيركو" الألماني ، عملاق الأمراض (الباثولوجيا) في عصره ، أنكر ذلك وأصر على رأيه بأن سبب هذه الأوبئة اليرقانية سدة مخاطية في حلمة الاثنا عشري ، وظل رأيه سائداً في الدوائر الطبية حتى منتصف القرن العشرين .
وفي القرن العشرين انهالت الاكتشافات الحديثة عن الكبد : وظائفه ، وبنائه وأمراضه وأسبابها ، ووسائل فحصه وتشخيصه ، والطرق الحديثة لعلاجه .
على المستوى الوظيفي:
وصف الكيميائيون مسار الجلتفصيلية،لجسم وتحوله إلى الأسيتون ، وطريقة قياس نسبة البليرويين (صبغ الصفراء ) في الدم ، ودورة البولينا في الجسم ، والتحليل الكهربائي لبروتينات الدم ، وقياس إنزيمات الكبد وتحديد دلالاتها في تشخيص أمراض الكبد .
وعلى المستوى البنائي :
ابتكر الأطباء إبرة لأخذ عينة من الكبد وفحص تركيبه وخلاياه ، وأصبحنا بفضل الميكروسكوب الإلكتروني ندرس أدق دقائق الخلية ، كذلك ابتكروا المناظير الضوئية لفحص تجويف البطن وتصوير الكبد والمرارة وغيرهما من محتويات البطن.
أما على مستوى الأمراض وأسبابها:
فقد تحولت تحولاً جذرياً أشبه بالثورة : انهار مفهوم "السدة المخاطية" كتفسير لأوبئة اليرقان وحلت محلها فيروسات الالتهاب الكبدي ، بدءاً بالفيروس (ب) الذي اكتشفه "بلومبرج" تحت اسم "المستضد الأسترالي" ونال عليها جائزة نوبل ، ثم وصفه "دان" وصفاً تفصيلياً بالميكروسكوب الإلكتروني ، وجاء بعده فيروس (أ) على يدي "فاينستون" وزملائه ، ثم فيروس (د) أو (دلتا) على يدي "ريزتو" وبقية الأبجدية تتوالى حتى الآن.
كذلك تنبه الأطباء إلى أنواع من الالتهاب الكبدي المزمن ، منها المناعي ومنها الفيروسي ، منها المثابر ومنها النشيط ،و في البلاد الاستوائية درست علاقة الكبد بأمراض المناطق الحارة كالملاريا والأميبا وسوء التغذية ، وشاركت مصر بنصيب الأسد في بحوث البلهارسيا وتليف الكبد ، ولا ننسى أن " تيودور بلهارس" الألماني هو الذي اكتشف دودة البلهارسيا أثناء عمله في مصر ، وقد خلدت مصر ذكراه وفضله بإنشاء معهد باسمه لبحوث هذا المرض .
أما التقنيات الطبية الحديثة ، كالتصوير التشخيصي (النظائر المشعة ، الموجات فوق الصوتية ، أشعة الكمبيوتر المقطعية ، .....الخ)، والبحوث المناعية، فقد غزت عالم الكبد وأمراضه، وغيرت كثيراً من مفاهيمه، وأغنت كثيراً في تشخيصه وعلاجه.
وإذا تتبعنا علاج أمراض الكبد على مدى السنين ، تبين لنا مدى التقدم الكبير والخطوات الواسعة التي خطوناها ، كنا لا نملك إلا أقل القليل .
نصح الأطباء بشرب المياه المعدنية ، وبحشد من "المواد الطبية " ، نباتية وحيوانية ومعدنية ، كلها بلا جدوى ، وباستفراغ"الأخلاط الضارة " من الجسم بالمقيئات والمسهلات والمدرات ، وبفصد "الدم المحتقن" بالحجامة والعلق الطبي(ديدان طفيلية تعلق بالجسم وتستنزف دمه) وحذر الأطباء مرضى الكبد من شرب الخمر ،وهي نصيحة محمودة ، ولكنهم بالغوا فيما يؤكل وما لا يؤكل حتى حرموا التوابل والقهوة ، أما الاستسقاء فكان علاجه الوحيد بزل البطن.
ومع القرن العشرين ، جاء فيض من المعرفة العلمية بأمراض الكبد ووسائل علاجها على أساس من العقل والتجربة ، تعلمنا كيف نعالج مرض السكر بالأنسولين ، وأمراض المناعة بالكورتيزون ، والعدوى من الميكروبات والطفيليات بالعلاج الكيميائي ومضادات الحيوية ، واختلال الملح والماء في الجسم باستعمال مدرات البول الحديثة ، تعلمنا أيضاً كيف تتوقي العدوى من الفيروسات باستعمال التطعيم ، وبدأنا نعالج الالتهاب الفيروسي بمضادات الفيروسات .
وشارك الجراحون في هذا الغزو العظيم : جراحات مبتكرة لخفض الضغط في الوريد البابي ، أو لعلاج الاستسقاء ، وأخرى لوقف النزف من دوالي المرئ ، وثالثة لاستئصال أورام الكبد أو لعلاج الأكياس أو لشق الخراج وآخرها وأحدثها وأروعها : زرع الكبد ، ولازال الغزو مستمراً .
أما حصيات المرارة (الحصيات الصفراوية ) فلها أيضاً تفصيلية،بجدر بنا أن نعرفه ، فقد سجل مؤرخو الطب ملاحظة غريبة ، وهي أن أبا بكر الرازي ، الطبيب العربي العظيم ، كأن أول من لاحظ وجود الحصى في مرارة الثيران في القرن العاشر الميلادي ، وغاب ذلك عن جالينوس وغيره من السابقين المشتغلين بتشريح الحيوانات ، وظل مجهولاً بعد طوال خمسة قرون ، حيث لاحظ "فولنيو" الإيطالي وجود حصى في المرارة الآدمية في القرن الخامس عشر ، هذا إذن مثال للرازي وما عرف عنه من قوة الملاحظة ، هو أيضاً مثال للأصالة في الطب العربي.
وملاحظة أخرى لفتت أنظار الأطباء في القرن السابع عشر ، وهي أن حصيات المرارة في الثيران تتكون في فصل الشتاء ، ثم تختفي في فصل الصيف ، وقد عزا الأطباء ذلك إلى أن غذاء الثيران في الشتاء يعتمد على التبن (الحشيش المجفف للعلف) ، أما في الصيف فغذاؤها العشب الأخضر ، واستنتجوا من ذلك أن العشب يذيب حصيات المرارة ، وانتشر "علاج البرسيم) هذا طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر ، ورأينا أيضا في مصر في منتصف القرن العشرين ، حيث حل البرسيم محل قصب السكر في محلات العصير !.
وفي القرن الثامن عشر درس العلماء المرارة دراسة تفصيلية، فصنفوها إلى أنواع، وحللوها تحليلاً كيميائياً دقيقاً، أما في القرن التاسع عشر فقد لاحظوا العلاقة الوثيقة بين تكوين الحصى والتهاب كيس المرارة، ونشب بين الأطباء خلاف: أيهما أسبق من الآخر ؟ هل تتكون الحصا أم الدجاجة،أم كيس المرارة ، أو العكس ؟ (هل البيضة قبل الدجاجة، أو العكس؟) واتفقوا أخيراً على أن العلاقة متبادلة، يسبب كل منهما الآخر وينتج عنه.
وأماأخرى، القرن العشرون ، فقد كان قرن الاكتشافات والابتكارات : تصوير المرارة والحصيات بالأشعة وتلوين القنوات الصفراوية ، ثم تصويرها بالموجات فوق الصوتية ، ثم تلوينها بالمناظير الضوئية ، استئصال المرارة جراحيا ، ثم استئصالها عن طريق المنظار البريتوني ، إذابة الحصيات كيميائياً ، ثم تفتيتها بالموجات الصدمية .
مرة أخرى ، لا زال الغزو مستمراً .
وفي الأساطير اليونانية : أن "بروميتيوس" سرق النار من آلهة جبل الأولمب ، وأعطاها للبشر فتعلموا منها الفنون ، وكان عقابه أن قيد بالسلاسل إلى جبال القوقاز ، وتولى نسر جارح نهش كبد بروميثيوس يومياً كلما نبت من جديد ، أما "هند بنت عتبة" ، زوجة أبي سفيان وأم معاوية ، فقد حضرت غزوة "بدر" ثم غزوة "أحد" وهي مشركة قبل أن تسلم ، فلما قتل "حمزة" عم النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، طلبت إلى قاتله أن يأتيها بقطعة من كبد حمزة ، مضغتها ثم لفظتها ، وسميت هند بعدها "آكلة الأكباد".
لا غرابة إذن أن لجأ البابليون والآشوريون ، صناع حضارة ما بين نهري دجلة والفرات القديمة ، إلى ما عرف بـ"تفحص الكبد" ، وهو نوع من العرافة واستطلاع المستقبل ، فكان الكهنة إذا سألهم أحد المشورة ، مريضاً كان أو قائد في طريقه إلى الحرب ، يذبحون ثوراً أو خروفاً يفحصون كبده ، ويشيرون على السائل بما يجب أن يفعله أو ما سيكون مصيره ومآله .
وانتشرت هذه العرافة في اليونان أيضاً إلا أن ظهور أبقراط ، طبيبهم العظيم ومدرسته ، بدأ تحولاً من السحر والكهانة إلى الطب العلمي المنظم ، يعتمد على المشاهدة الدقيقة والتجربة الفاحصة ، ثم جاء جالينوس ، طبيب الرومان الكبير ، فشرح الحيوانات واكتسب منها معرفة واسعة بتشريح الإنسان ، وإن كان قد جانبه الصواب في كثير منه ، لأن تشريح الجثث الآدمية كان محرماً ، كان جالينوس يؤمن بنظرية " الأخلاط الأربعة " وهي أن الغذاء يتحول في الجسم إلى مواد أربع : الدم والبلغم والمرة الصفراء ، والمرة السوداء. وأن الكبد مسئول عن تكوين الأخلاط كلها وتوزيعها ، فالغذاء يمتص من المعدة والأمعاء ، ويتجه إلى باب الكبد حيث يطبخ هناك دماً ، "والكبد لحم أحمر كأنه دم جامد" ، ثم يوجه الكبد الماء إلى الكليتين ، والصفراء إلى المرارة ، والراسب الأسود إلى الطحال .
سيطر طب جالينوس ، ووصفه للتشريح ، ونظريته في تقالكبد:بد لأربعة ، على الفكر الطبي طوال العصر الوسيط ، واستمر مؤثراً لأكثر من ألف عام ، كان الأطباء العرب يتبعون "الفاضل" جالينوس في أكثر آرائه ، وإن كانت لهم شكوكهم فيه واعتراضاتهم عليه ، وبخاصة أبو بكر الرازي وبعد اللطيف البغدادي وابن رشد وابن النفيس ، في كتبهم عشرات من المشاهدات الدقيقة والملاحظات المبتكرة التي تشهد بأصالتهم وسبقهم.
ثم جاء عصر النهضة ، عصر العلماء والفنانين الموسوعيين ، أشهرهم وأعظمهم بلا جدال "ليوناردو دافنشي" كان ليوناردو متعدد المواهب والاهتمامات : خلد للعالم صورة "موناليزا" أو "الجيوكوندا" الشهيرة ، وعشرات أخرى من الروائع في الرسم والنحت والعمارة ، وكان أيضاً مهندساً ومولعاً بالعلم واستشراق المستقبل ، وقد شرح الجسم البشري ، ووصف الكبد ، رسماً وكتابة ، وصفاً تفصيلياً يشمل أوعيته الدموية وجهازه المراري وبعض أمراضه كتليف الكبد ، وظلت أبحاث ليوناردو واكتشافه مجهولة لأكثر من ثلاثمائة سنة ، وعزي إلى " فيزاليوس" ، وهو مواطن إيطالي آخر من عباقرة عصر النهضة ،عزي إليه الفضل في الوصف الحديث لتشريح الكبد .
وفي القرن السابع اكتشف "وليم هارفي" الدورة الدموية ، ففقد الكبد عرشه كمصدر للدم وتوزيعه ، واختزل الكبد إلى مجرد مفرز للصفراء.
ثم اخترع الميكروسكوب ، ففتح آفاقاً جديدة ، واكتشف العلماء عالماً واسعاً من التفاصيل الدقيقة المجهرية التي يجهلونها ، وواكب ذلك فهم أصدق وأعمق عن بناء الكبد ووظائفه .
ففي القرن الثامن عشر وصف الإيطالي "مرجاني" والسويسري "هالر" التشريح الدقيق للكبد : فصوصه وخلاياه ، وأوعيته الدموية وأمراضه ، وعلاقة تليف الكبد بالخمر (الكحول) وأكياس الكبد بالديدان الطفيلية .
وفي القرن التاسع عشر جاء المزيد من التفاصيل ، واستعادالكبد عرشه ، وصف"كلودبرنار " دور الكبد المحوري في تنظيم سكر الدم ، واكتشف مادة الجليكوجين الذي هو بمثابة النشا الحيواني لأنه المخزن الرئيسي للسكريات في الكبد ، ووصف "لينك" تليف الكبد وضموره وصفاً كلاسيكياً حتى أطلق اسمه عليه ، كذلك أطلق اسم "هانو" عالم فرنسي ثالث ، على تليف الكبد المراري الأولى ، وتنبه الأطباء إلى تكرر ظهور أوبئة مصحوبة باليرقان ، وأثاروا احتمال وجود ميكروبات دقيقة تسبب هذه الأوبئة ، إلا أن "رودلف فيركو" الألماني ، عملاق الأمراض (الباثولوجيا) في عصره ، أنكر ذلك وأصر على رأيه بأن سبب هذه الأوبئة اليرقانية سدة مخاطية في حلمة الاثنا عشري ، وظل رأيه سائداً في الدوائر الطبية حتى منتصف القرن العشرين .
وفي القرن العشرين انهالت الاكتشافات الحديثة عن الكبد : وظائفه ، وبنائه وأمراضه وأسبابها ، ووسائل فحصه وتشخيصه ، والطرق الحديثة لعلاجه .
على المستوى الوظيفي:
وصف الكيميائيون مسار الجلتفصيلية،لجسم وتحوله إلى الأسيتون ، وطريقة قياس نسبة البليرويين (صبغ الصفراء ) في الدم ، ودورة البولينا في الجسم ، والتحليل الكهربائي لبروتينات الدم ، وقياس إنزيمات الكبد وتحديد دلالاتها في تشخيص أمراض الكبد .
وعلى المستوى البنائي :
ابتكر الأطباء إبرة لأخذ عينة من الكبد وفحص تركيبه وخلاياه ، وأصبحنا بفضل الميكروسكوب الإلكتروني ندرس أدق دقائق الخلية ، كذلك ابتكروا المناظير الضوئية لفحص تجويف البطن وتصوير الكبد والمرارة وغيرهما من محتويات البطن.
أما على مستوى الأمراض وأسبابها:
فقد تحولت تحولاً جذرياً أشبه بالثورة : انهار مفهوم "السدة المخاطية" كتفسير لأوبئة اليرقان وحلت محلها فيروسات الالتهاب الكبدي ، بدءاً بالفيروس (ب) الذي اكتشفه "بلومبرج" تحت اسم "المستضد الأسترالي" ونال عليها جائزة نوبل ، ثم وصفه "دان" وصفاً تفصيلياً بالميكروسكوب الإلكتروني ، وجاء بعده فيروس (أ) على يدي "فاينستون" وزملائه ، ثم فيروس (د) أو (دلتا) على يدي "ريزتو" وبقية الأبجدية تتوالى حتى الآن.
كذلك تنبه الأطباء إلى أنواع من الالتهاب الكبدي المزمن ، منها المناعي ومنها الفيروسي ، منها المثابر ومنها النشيط ،و في البلاد الاستوائية درست علاقة الكبد بأمراض المناطق الحارة كالملاريا والأميبا وسوء التغذية ، وشاركت مصر بنصيب الأسد في بحوث البلهارسيا وتليف الكبد ، ولا ننسى أن " تيودور بلهارس" الألماني هو الذي اكتشف دودة البلهارسيا أثناء عمله في مصر ، وقد خلدت مصر ذكراه وفضله بإنشاء معهد باسمه لبحوث هذا المرض .
أما التقنيات الطبية الحديثة ، كالتصوير التشخيصي (النظائر المشعة ، الموجات فوق الصوتية ، أشعة الكمبيوتر المقطعية ، .....الخ)، والبحوث المناعية، فقد غزت عالم الكبد وأمراضه، وغيرت كثيراً من مفاهيمه، وأغنت كثيراً في تشخيصه وعلاجه.
وإذا تتبعنا علاج أمراض الكبد على مدى السنين ، تبين لنا مدى التقدم الكبير والخطوات الواسعة التي خطوناها ، كنا لا نملك إلا أقل القليل .
نصح الأطباء بشرب المياه المعدنية ، وبحشد من "المواد الطبية " ، نباتية وحيوانية ومعدنية ، كلها بلا جدوى ، وباستفراغ"الأخلاط الضارة " من الجسم بالمقيئات والمسهلات والمدرات ، وبفصد "الدم المحتقن" بالحجامة والعلق الطبي(ديدان طفيلية تعلق بالجسم وتستنزف دمه) وحذر الأطباء مرضى الكبد من شرب الخمر ،وهي نصيحة محمودة ، ولكنهم بالغوا فيما يؤكل وما لا يؤكل حتى حرموا التوابل والقهوة ، أما الاستسقاء فكان علاجه الوحيد بزل البطن.
ومع القرن العشرين ، جاء فيض من المعرفة العلمية بأمراض الكبد ووسائل علاجها على أساس من العقل والتجربة ، تعلمنا كيف نعالج مرض السكر بالأنسولين ، وأمراض المناعة بالكورتيزون ، والعدوى من الميكروبات والطفيليات بالعلاج الكيميائي ومضادات الحيوية ، واختلال الملح والماء في الجسم باستعمال مدرات البول الحديثة ، تعلمنا أيضاً كيف تتوقي العدوى من الفيروسات باستعمال التطعيم ، وبدأنا نعالج الالتهاب الفيروسي بمضادات الفيروسات .
وشارك الجراحون في هذا الغزو العظيم : جراحات مبتكرة لخفض الضغط في الوريد البابي ، أو لعلاج الاستسقاء ، وأخرى لوقف النزف من دوالي المرئ ، وثالثة لاستئصال أورام الكبد أو لعلاج الأكياس أو لشق الخراج وآخرها وأحدثها وأروعها : زرع الكبد ، ولازال الغزو مستمراً .
أما حصيات المرارة (الحصيات الصفراوية ) فلها أيضاً تفصيلية،بجدر بنا أن نعرفه ، فقد سجل مؤرخو الطب ملاحظة غريبة ، وهي أن أبا بكر الرازي ، الطبيب العربي العظيم ، كأن أول من لاحظ وجود الحصى في مرارة الثيران في القرن العاشر الميلادي ، وغاب ذلك عن جالينوس وغيره من السابقين المشتغلين بتشريح الحيوانات ، وظل مجهولاً بعد طوال خمسة قرون ، حيث لاحظ "فولنيو" الإيطالي وجود حصى في المرارة الآدمية في القرن الخامس عشر ، هذا إذن مثال للرازي وما عرف عنه من قوة الملاحظة ، هو أيضاً مثال للأصالة في الطب العربي.
وملاحظة أخرى لفتت أنظار الأطباء في القرن السابع عشر ، وهي أن حصيات المرارة في الثيران تتكون في فصل الشتاء ، ثم تختفي في فصل الصيف ، وقد عزا الأطباء ذلك إلى أن غذاء الثيران في الشتاء يعتمد على التبن (الحشيش المجفف للعلف) ، أما في الصيف فغذاؤها العشب الأخضر ، واستنتجوا من ذلك أن العشب يذيب حصيات المرارة ، وانتشر "علاج البرسيم) هذا طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر ، ورأينا أيضا في مصر في منتصف القرن العشرين ، حيث حل البرسيم محل قصب السكر في محلات العصير !.
وفي القرن الثامن عشر درس العلماء المرارة دراسة تفصيلية، فصنفوها إلى أنواع، وحللوها تحليلاً كيميائياً دقيقاً، أما في القرن التاسع عشر فقد لاحظوا العلاقة الوثيقة بين تكوين الحصى والتهاب كيس المرارة، ونشب بين الأطباء خلاف: أيهما أسبق من الآخر ؟ هل تتكون الحصا أم الدجاجة،أم كيس المرارة ، أو العكس ؟ (هل البيضة قبل الدجاجة، أو العكس؟) واتفقوا أخيراً على أن العلاقة متبادلة، يسبب كل منهما الآخر وينتج عنه.
وأماأخرى، القرن العشرون ، فقد كان قرن الاكتشافات والابتكارات : تصوير المرارة والحصيات بالأشعة وتلوين القنوات الصفراوية ، ثم تصويرها بالموجات فوق الصوتية ، ثم تلوينها بالمناظير الضوئية ، استئصال المرارة جراحيا ، ثم استئصالها عن طريق المنظار البريتوني ، إذابة الحصيات كيميائياً ، ثم تفتيتها بالموجات الصدمية .
مرة أخرى ، لا زال الغزو مستمراً .
خريطة دليل الكبد | السابق |