الفصل الأول والأخير (1)


لاشك في أن هذا الفصل الأخير من هذه المدونة سيذهل القارئ ويبهره ،وربما خالط الانبهار شعور بالمرارة والضيق ،ولعل القارئ حديث عهد بقراءة أسباب احتباس البول فليقف معنا ويتأمل ما كتبه أبو الحسن الطبري في كتاب "فردوس الحكمة"سنة 850
ميلادية "فأما الحصر(الاحتباس)فإما أن يكون من ورم في الإحليل فإذا مسه المريض حس بالوجع أو من ورم في العضلة التي في فم المثانة (البروستاتا كما نعرفها اليوم) وإما من ضعف المثانة عن الانعصار لإخراج البول ،أو من ضرب أو ألم يصيب العصب المتصل بفقار الظهر فتضعف المثانة لذلك وإما من حصاة أو قيح يسد مسالك البول أو يكون ضيقاً من الجبلة فلا يخرج البول إلا بشدة" أليس هذا الإحصاء الجميل شاملاً لما ذكرناه من العيوب الخلقية وتضخم البروستاتا وإصابات العمود الفقري؟.
أما أبو بكر الرازي (850-924) الذي عمل رئيساً لبيمارستان بغداد فقد وضع 56 كتاباً في الطب أهمها "الحاوي" الذي تحتل المسالك البولية منه جزأين من مجموع أجزائه الثمانية ولنقرأ ما كتب في التمييز بين آلام الكلية والقولون "إن ألم الكلية يحدث في القطن وهو ألم شديد يشعر فيه المريض وكأن ثقباً يثقب قطنه ،كما يشكو من ألم في التبول ،وبفحص البول نجد فيه رمل ودم،أما مريض القولون فلا يشكو من ألم في التبول أو صعوبة،ولا يوجد عنده ألم بالقطن ولا توجد تغيرات في بوله".
والرازي هو أول من فرق بين احتباس البول وأسر البول (امتناعه) فيقول : "إذا جاء مريض يشكو من عدم التبول ،فيجب أن تحدد إذا كان السبب هو في الكليتين والحالبين أو في مجرى البول الخارج من المثانة ،فالاحتباس يحدث نتيجة انسداد في مجرى البول ،وبفحصك المريض تجد انتفاخاً فوق المثانة بسبب امتلاء المثانة ،أما الأسر فيكون نتيجة لعلة في الكليتين والحالبين وتكون حينئذ المثانة خالية ويشكو المريض من ألم في قطنه"
ومن الحالات النادرة في المسالك البولية حالة غرغرينا الصفن ،حيث دأبت المراجع الحديثة على نسبتها إلى فورنييز(1885) باعتباره أول من وصفها ،فسميت باسمه وإذا رجعنا إلى ما كتبه الرازي وجدناه يكتب :"رأيت في البيمارستان خلقاً أصابتهم مصيبة في كيس البيضتين فتأكل كله وسقط وبقيت البيضتان معلقتين بأربطة ،ثم عاد اللحم ونبت نبتاً صلباً ،ليس كالكيس الأول إلا أنه يقوم مقامه"
وقد اتبع الأطباء العرب المنهج العلمي الذي مازلنا نتعبه الآن ،من بدء سماع الشكوى من المريض ثم تسجيل تاريخها وأمراضه السابقة وتاريخ عائلته الصحي ثم القيام بالفحص الإكلينيكي الدقيق شاملاً الفحص العام والموضعي ثم تحليل النتائج والاحتمالات وهو ما يعرف بالتشخيص التميزي واكتسبوا خبرة من دقة الملاحظة ومعايشة المرضى في البيمارستان لتتبع التطورات التي تطرأ على حالاتهم.
ولم يكن نبوغهم قاصراً على الجزء الإكلينيكي وإنما تبحروا فيما يعرق بالعلوم الأساسية ،كالتشريح ووظائف الأعضاء ومن أبرز الأطباء العرب على بن العباس المجوسي ،المتوفى سنة 944 ميلادية وصاحب الكتاب الملكي "كامل الصناعة الطبية" ولنقرأ ماذا كتب في وصف المثانة البولية "وأما المثانة فهي موضوعة في الذكور على المعي المستقيم وهي ذات طبقة واحدة صلبة وعلى فمها عضلة تضمها وتمنع خروج البول إلا بإرادة ،فالبول يتأدى إليها من الكليتين من المجريين بالمثانة فيأخذان على التوريب ويمران طولاً وينفذان بعد ذلك إلى داخلها وقد قشر من جرمها قشرة شبيهة بالغشاء" ،لقد ذكر المجوسي تشريح موضع اتصال الحالب بالمثانة وأكد على "التوريب" الذي هو مانع لارتجاع البول من المثانة إلى الحالب ،أما القشرة الشبيهة بالغشاء ،فلم يعرفها الغرب إلا في عام 1891 حينما وصفها فالدير فنسبوها إليه وأسموها غلاف فالدير.

خريطة دليل البروستاتا السابق