شئ من الحكمة (2)


وعنصر السرعة في التشخيص والقراموضعه،هو ضروري لإدراك المرض المبكر ،وكذا الإشفاق على المريض من دوام القلق وتواصل الانزعاج ،وأذكر أن صديقاً تعرض لهذه المحنة ،إذ ظهرت بعض الخلايا السرطانية في شريحة العينة المأخوذة منه فقرأ التقرير وكأنما أصابته قارعة فجفاه النوم وأضرب عن الطعام وأمسك عن الكلام وكلما ألح عليه أبناؤه وأحفاده ليتناول طعاماً صاح فيهم أنه مثله كالجالس على قنبلة موقوتة ما يدري متى تنفجر فينتشر جسمه أشلاء فأنى له أن يطمئن وقد جاء القرار بعد مداولات واستشارات بأن ما هو موجود في الشريحة إنما هو السرطان الكامن الذي يوجد في ثمانين بالمائة ممن جاوزوا الثمانين وهو لا يستدعي علاجاً والأولى تجاهله تماماً.
ولا يفوتني في مقام الخوف هذا أن أذكر حالة أخرى : سفير سابق في سن الخامسة والستين ،شعر ببعض التردد في اندفاع تيار
البول واستشار طبيباً نصحه بعمل تحليل تقدير أنتيجين بالبروستاتا النوعي وفوجئ الرجل ـوكان على دراية واطلاع ـ بأن الرقم الذي أسفر عنه التحليل هو ثمانية وعشرون بينما الطبيعي يتراوح بين صفر وأربعة ،جاءني منزعجاً مستطار اللب ،فهدأت من روعه ونصحته بعمل أشعة صوتية مع أخذ عينات من البروستاتا وهو ما ينبغي أن يتبع في حالة ارتفاع الأنتيجين واستغرق التحليل وفحص العينات ثلاثة أيام ثم كان التقرير الباثولوجي أن لا وجود للسرطان وإنما يوجد التهاب واضح في البروستاتا ،وفي حالات الالتهاب تتحلل بعض الخلايا مطلقة ما فيها من الأنتيجين فيعلو مستواه في الدم بدرجة كبيرة وبعد علاج قصير الأمد عاد التحليل إلى المستوى الطبيعي ولكن بعد أن قضى السفير أياماً وصفها لي بأنها أسوأ ما مر به في حياته إذ كان فكره ـ على حد قوله ـ يطوف بين قبب الغفير (حيث توجد مقابر أسرته) ويكاد يهبط إلى أقببته كما يقول المازني رحمه الله.
والحقيقة أن سرطان البروستاتا ليس شائعاً في مصر كما هو في الولايات المتحدة فهو عندهم يمثل ثالث سرطان للرجال ولا يفوقه إلا سرطان الرئة وسرطان القولون فلا عجب أن حذرت منه وسائل الإعلام وأوضحت كثرة احتمالات الإصابة به ،على أن ضجيج الإعلام مبالغ فيه ولا أقصد الإعلام البدائي في التلفاز كما هو عندنا متمثلاً في المرحوم محمد رضا وهو يعطي ظهره للترعة وإنما الإعلام المنسق المدبر الذي يجعل سرطان البروستاتا هو الموضوع الأول والرئيسي في كل مؤتمرات المسالك البولية هناك،ولاشك أن حفز جميع الرجال المسنين على فحص شامل دوري سنوي يمتد مدى الحياة يعود بالأموال الطائلة والأرباح الوفيرة تجنيها شركات الآلات الطبية ومؤسسات إنتاج الكيمياويات والأدوية ،فلا عجب أن تحول التحذير المرغوب إلى الرعب المكروه.
وما أجمل أن يتحرى الطبيب الكتمان فلا ترد على لسانه لفظة السرطان إلا بعد التأكد من وجوده وبعد أن يتم تقدير الأنتيجين وفحص العينات الباثولوجية و أشعات العظام وغيرها وتصبح المكاشفة لازمة حتى يتقبل المريض العلاج.
وبهذا نكون قد وضعنا كل أمر في موضعه ،فلا نندفع في كآبة سوداء تفسد مذاق الحياة ولا ننزلق إلى تبسيط وتجاهل وتفاؤل يقضي على الحياة.

خريطة دليل البروستاتا السابق